ثلاثة كتب وطريق واحدة

ثلاثة كتب وطريق واحدة
اختلفت الناس في أديانها ومعتقداتها ورؤاها. كل فرد بصمة واحدة في عينه، أو في ابهامه، لا مثيل لها. اختلفوا قبائل وأفخاذاً وأنساباً وشيعاً وفرقاً وافرقاء. اختلفوا في المناطق والمناخات والألوان. وكل مختلف ارتضى لنفسه زعيماً يرى فيه حمايته. مثل الهنود الحمر مثل الفايكنغ البيض. كل ديانة فروع ومذاهب ونقاش. كذلك ايضاً كان الالحاد الشيوعي من ماركس الى بيرلنغير. الاسلام والمسيحية واليهودية، اديان في السماء ومذاهب على الأرض. ضمن كل دين اقتتلوا على السماء، وحوَّلوا الأرض الى جحيم. ثم تقاتلوا في ما بينهم بلا توقف، إما حول قطعة من السماء، مثل آيا صوفيا، التي وقعت في يد رجب طيب اردوغان، وإما حول كبد من الأرض، مثل الضفة الغربية التي وقعت في يد نتنياهو الكاسر.
للخروج من دمار الاختلاف والنزاع، بحث العقلاء والطوباويون والمسالمون عن الشراكة والوفاق. تجاهلوا التطلعات الصغيرة وروَّضوا الغرائز الحقيرة. وقامت الدولة محل القبيلة، والقانون محل الساحات والحلبات.
لبنان كان صورة عن حروب البشر وسلامها. أديانها ومعتقداتها وايديولوجياتها. مرة يهادن ومرة يقاتل ومرة تحصده الحروب. الزعامة المسيحية فيه خائفة دوماً من عقدتها كأقلية في البلد، وفي البلاد. تعرف أنها لن تصبح يوماً اكثرية، أو حتى موازية، بسبب طبيعة الاشياء، ولذا لطالما بحثت عن عقد وطني غير مكتوب، يضمن لها البقاء في الأرض والشراكة في الهوية. وغالباً كان هذا البحث عميقاً وصادقاً وجدّياً. وظهرت هذه المحاولات خصوصاً عند من يسمى “مسيحيو الاطراف”. أي حيث يعيشون كأقليّة ظاهرة الى جانب اكثرية واضحة، كما في البقاع والشمال. وفي هذه المناطق، لم يكن البعد الطائفي وحده ظاهراً، بل ايضاً بعد العلاقات الاجتماعية المحاذية مع سوريا.
ضمن هذه الحقيقة التاريخية، بحث الفريق المتنور من المسيحيين عن كل صيغة قابلة للحياة وللتطور. الصيغة التي تضمن لهم كرامتهم الوطنية بصرف النظر عن الأثر الثقافي المسيحي. في الأسابيع الأخيرة صدرت ثلاثة كتب، لا علاقة لمؤلفيها بعضهم بالبعض، ولا لمواعيد ظهورها، لكنها تقدّم في هذه المرحلة، نموذجاً لثلاثة مسيحيين ساروا على درب واحدة لها ثلاثة ابعاد: ايلي الفرزلي (1)، وعباس خلف 2))، وداود الصايغ (3).
الأول دخل السياسة من طريق البرلمان، وليّاً على إرث العائلة وأديب الفرزلي. والثاني دخلها رفيقاً لكمال جنبلاط والفكر الاشتراكي. أما الدكتور داود الصايغ، مستشار الرئيس رفيق الحريري، وبعده الرئيس الإبن، فهو ينتسب بكل وضوح، الى مدرسة ميشال شيحا بكل منطلقاتها.
الثلاثة تسوَويون: ليس بالمعنى الوصولي الانتهازي، وإنما بمعنى العمق الوطني. طبعاً لكل أسلوبه: ميرابو البرلمان العالي الصوت، والمبتعد عباس خلف، و”خواجية” داود الصايغ المتأتية من التأدب الكاثوليكي.
لا مفر من أن تبدو الكتب الثلاثة شبه سِيَر ذاتية، خصوصاً مذكرات الفرزلي “أجمل التاريخ كان غداً” التي هي تدوين لمرحلة سياسية كان الدور الاكبر فيها لسوريا، وتالياً، كان الشاهد الأكبر ابن جب جنين. ربما كانت هناك حقائق أو وقائع اختار الفرزلي عدم الإشارة إليها، كما يحدث لأي سياسي آخر. لكن بالتأكيد، ليس هناك اي تحريف في كل ما دوِّن وما روى، بأسلوب ادبي، موروث هو أيضاً.
في نماذج السادة الثلاثة، تبدو أيضاً حقيقة وطنية أخرى بعيداً من العنتريات وادوات الاحتفال، وهي ان السياسي المسيحي في “الاطراف” يُعطى دور الرجل الثاني، لأسباب تفرضها طبيعة الاشياء وحقائق لبنان: الفرزلي نائباً للرئيس، وخلف نائباً للزعيم الدرزي، والصايغ مستشاراً أو سفيراً لرئيس الوزراء. لكن الثلاثة بأدوار رئيسية وتكليف تام وثقة كاملة. ثلاثة، متباعدون في المواقف، لكنهم يلتقون عند نهاية الطريق في رؤية واحدة للبنان. ثلاثة مسيحيين، مقربين من مراجعهم الروحية، لكنهم يمثلون العلمانية الليبرالية في تعلقها بالحريات والنظم المدنية.
المصادفة وحدها جمعت بين مواعيد الكتب، وتالياً، الكتّاب، وتالياً، المأزق الوطني الكبير الذي نحن فيه، ما من واحد منهم يريد ان يفرض مذهبه على الآخر أو دينه على الجميع.
هؤلاء الذين يمثلون الاكثرية الكبرى من العقل المسيحي الواعي، يريدون من شركاء الوطن، أن يعيشوا طريقتهم في الحياة كما هي. أن يردِدوا نشيداً وطنياً واحداً، مع حريتهم بأن يسمعوا من الغناء والموسيقى ما يشاؤون. وأن يعتبروا الموسيقى لحناً، لا شيطاناً. وأن يحبوا فيروز ويقرأوا نزار قباني ويذهبوا الى المسرح. ليس هذا بالأمر الكثير. لقد انتمى المسيحيون الى العروبة يوم كان مكرم عبيد مرجعاً فقهياً. ويوم أعلن بولس سلامة انتسابه الى الإمام علي، بعد حضور القداس. ويوم اختار المسيحيون لابنائهم اسماء غير دينية لئلا يبدوا غرباء في ارضهم وبين شركائهم ورفاق حضارتَهم.
ثمّة ثلاث طروحات غير عادية أمام اللبنانيين اليوم: إعادة التأسيس، والذهاب الى الحياد، والفيديرالية. توضع ثلاثتها في زمن شديد الاضطراب، وتفجر البراكين المذهبية، وسط خريطة اقليمية غير مشهودة منذ ان اعتمر لورنس العرب الغطرة والعقال فوق عينين زرقاوين. دعوة الحياد، التي اطلقها البطريرك الراعي، هي عملياً تغيير جوهري في سياسة لبنان الخارجية ووضعه الاقليمي. والدعوة الى اعادة التأسيس، هي عملياً تغيير الوضع الداخلي وصورة لبنان الخارجية. والدعوة الى الفيديرالية هي تهرّب مؤدب ومقنّع من صعوبة الحياد وتبعات اعادة التأسيس. وفي معناها الأبعد تشكل الدعوات الثلاث تباعداً سلمياً، بالتوافق، تجنباً لأي محنة من محن الاصطدام التي نمرّ بها، عند احتدام الظروف المشابهة في الاقليم وتفاقم صراع الهويات، كما لو أننا في السنة الأولى من عمر لبنان، وليس في المئوية الأولى. الرؤى الثلاث من العمق بحيث لا يمكن طرحها في زمن غاضب ومتعجل. وقد أعطى دعم الزعامات السنية لدعوة البطريرك الراعي، مباركة تُسقط عنها أي شكوك طائفية. وفي الماضي كان السنّة هم من يحاربون فكرة الحياد وسياسته. لكن شيئاً، أو أحداً، لم يعد كما كان. لقد تغيّرت القوى وتغيرت موازينها ومفاهيمها، والذين كانوا يهربون الى الحياد من التزامات سوريا وطموحاتها، يحاولون الآن الهرب من التزامات ايران في سوريا. ولم يعد ينفع الحنين الى ماض يرفض ان يمضي. ولا تذكّر فارس الخوري على أنه كان وزيراً للأوقاف بالوكالة. من الصعب استعادة الحقب الجميلة في ازمان الانقلاب.
هذا زمن شديد العصف، وكل فريق يحاول أن يحمي لبنانه من خلال اقناع الجميع به. فريق يريد العودة به الى جذور الولادة، كمثل مشروع بكركي، وفريق يريد تصحيح علة الولادة، كالدعوة الى الفيديرالية، وفريق يريد ولادة جديدة. أو ولادة أخرى تماماً.
يتوقف كل شيء على مستوى النقاش ومستوى المحاورين. وعلى مفهوم الشراكة. فالعقد الوطني ليس صفقة تجارية تتكون من فريق وثان. بل من مجموعة متساوية من الافرقاء، يبحثون عن الخلاص بالخلاص، لا عن الخلاص بالموت.
1 ? ايلي الفرزلي، أجمل التاريخ كان غداً، دار سائر المشرق.
2 ? عباس خلف، ملح الأرض، مسيرة التزام ونضال ووفاء.
3 – داود الصايغ، لبنان الكبير في المئوية الأولى، بيت بدون سياج، دار سائر المشرق.